دراسات إسلامية

 

 

 

 

الوسطية والاعتدالية في المنهج الإسلامي

 

 

 

بقلم : د. أحمد عبده عوض (*)

 

        إن الاعتدالية خصيصة أساسية في الإسلام ، وبُنِيَتْ في ضوئها التشريعات الإسلامية ، وسنعرض لمفهوم الاعتدالية ، ومظاهرها في الإسلام ، وأنواعها المتعددة .

مفهوم الاعتدالية:

     يقول الله سبحانه ﴿وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسَطاً لِّتَكُوْنُوْا شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُوْنَ الرَّسُوْلُ عَلَيْكُمْ شَهِيْدًا﴾ (البقرة:143) .

     والوسط هنا الخيار والأجود . وفسرته الأحاديث بأنه عدل ، والوسط العدل . (ابن كثير ج:1 1980/190) .

     ويمكن القول إن الناس في مسايرتهم لوصايا الدين ، على ثلاثة أصناف ، فمنهم صنف تذهب به طبيعته ، أو يذهب به دينه ومذهبه إلى أبعد الأطراف، فهو غال شديد الغلو ، ومنهم صف ثان تذهب به طبيعته أو يذهب به دينه ومذهبه إلى أدنى الأطراف ، فهو مترخص شديد الترخيص ، ومنهم صنف ثالث تذهب به طبيعته ، أو يذهب به دينه إلى منزلة وسطى ببين المنزلتين ، فلا هو إلى الغلو، ولا إلى الترخيص ؛ ولكنه على أحسن ما يكون من نشد أوساط الأمور، والأخذ في طرائق الاعتدال .

     ولاشك أن الفضيلة الخلقية في كل ما تقدم هي التوسط بين الطرفين ، فالعرب تستعمل كلمة وسط استعمالاً حقيقيًا لتدل بها على مكان الشيء بين الشيئين، فهم يقولون: (جلس فلان وسط الدار) ويقولون: (توسطت الشمس السماء)، ويقولون: (واسطة العقد)، للجوهرة التي تمتاز في العقد من سائر أخواتها عن يمين وشمال ، وهذا الاستعمال الحقيقي لكلمة «وسط» وما يشتق منها يقاربه في اللغة استعمال الكلمة استعمالاً مجازيًا. وإذا كان المعنى الحقيقي لها دالاً على وجود الشيء بين شيئين ، فإن المعنى المجازي يدل على الخيرية والسبق إلى الفضل . (أحمد حسن الباقوري ، 27,1981-28).

     وهكذا تكون كلمة (وَسَطاً) في الآية الكريمة ﴿وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَّسًطاً﴾ صالحة للمعنيين جميعًا، المعنى الحقيقي والمعنى المجازي على أن يكون معنى الآية هو أن الله تعالى جعل الأمة العربية الإسلامية أمة خيرة ، عريقة في الخير، وبهذا التفسير تلتقي مع الآية الكريمة ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ ، وذلك بالنظر إلى المعنى المجازي ، وعلى أن يكون معناها الحقيقي هو أن الله تعالى جعل هذه الأمة في منزلة وسطى بين المنزلتين ، فلا هي إلى الغلو المفرط ، ولا هي إلى التهاون المفرط ، كما هو شأن غيرها من الأمم الأخرى .

     وهكذا فإن القصد والاعتدال هما خصيصة الإسلام الأولى ، وأن الغلو والابتذال هما خصمه الألد، والذين يتناولون عقائد الإسلام وشرائعه تناول الواعي الفقيه يتبين لهم ذلك بما لايشوبه غموض .

     وقد دعا الإسلام أتباعه كذلك إلى أن يتسموا بنفس السمة فيكونوا معتدلين .. حيث إن الفقه الحق يكون في الترخيص الأمين الذي ييسر على الناس ، ويرضي الله . وليس في التشدد . وهذا يتفق مع مقولة سفيان الثوري الذهبية ، ﴿إنما الفقه الرخصة عن ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد﴾ .

     نعم إن التشدد يحسنه كل أحد ، ممن ضاقت معارفهم أو ضاقت صدورهم ، فما أسهل الجنوح إلى المبالغة والتزيد باسم الحذر والحيطة ، وما أيسر الجنوح إلى المبالغة والتزيد باسم الرفض والتحريم أخذًا بالشبهات ، واحتجاجًا بسد الذرائع ، إنما التحدي الحقيقي والفقه الأصيل ، يتمثل إما في ضبط ميزان الاعتدال في العبادة والسلوك ، أو في المجاهدة على فعل الخير، أو درء الشر. (فهمي هويدي، 1987 ، 46) .

     وقد دعت آيات القرآن الكريم إلى اليسر والاعتدال كما يتضح من هذه الآيات ﴿يُرِيْدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيْدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة 185). ﴿فَقُلْ لَّهُمْ قَوْلاً مَيْسُوْرًا﴾ (الإسراء 28) ﴿مَا يُرِيْدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ (المائدة 6) ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّيْنِ مِنْ حَرَجٍ﴾ (الحج 78) ﴿يُرِيْدُ اللهُ أَنْ يُّخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيْفًا﴾ كما دعت الأحاديث النبوية إلى التيسير والتبشير وعدم التنفير وعدم الغلو . فقد قال ﴿عليكم من الأعمال ما تطيقونه ، فإن الله لايمل حتى تملوا﴾، وقوله ﴿إن هذا الدين متين، فأوغلوا فيه برفق ؛ ولا تبغضوا إلى أنفسكم عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ، ولا ظهرًا أبقى﴾.

     ومع أن الإسلام قد دعا إلى الاعتدال ، فإن ثمة أمرًا جديرًا بالانتباه هنا ، وهو أن التيسير المطلوب لايكون بتطويع الأحكام الشرعية ؛ لتكون في خدمة الواقع ، أياً كان ، بحيث يتم قبول كل ما هو قائم أو تبريره .. وإضفاء غطاء أو رداء شرعي له ، فذلك أمر مرفوض بطبيعة الحال ، ولا محل لمناقشته ، من حيث أنه يفتح الباب للانخلاع من الشريعة تدريجيًا ، لكن الذي نسعى إليه ، ونلح عليه هو أولاً الاعتدال في فهم النصوص ، وتناولها بصورة لا تشق على الناس ، ولا تحملهم حرجًا ، ولا عنتًا يفوق طاقتهم، وهو ثانيًا الاهتداء بالمصالح المشروعة في استنباط الأحكام الشرعية الجديدة ، انطلاقًا من فهم رحب للنصوص القائمة ، والمقاصد المستهدفة .

     وليس خافيًا أن الاعتدال المطلوب في تعاطي النصوص الشرعية ينسحب على العبادات والمعاملات في آن واحد، أما استنباط الأحكام في ضوء متغيرات الواقع، ومستجداته فينصب على المعاملات بالدرجة الأولى .

     ولاشك أن الاعتدال والتوسط في الدين الإسلامي له أسسه وركائزه ، كما أن له منهجه القويم الذي يتفق مع الطبيعة البشرية التي فطر الله الناس عليها .

     وتتضح هذه الاعتدالية ، وهذا التوسط في العقيدة الإسلامية ، وفي العبادات المختلفة ، وفي السلوك الإسلامي ، وفي الأخلاقيات الإسلامية ، وفي توجيهات الرسول الكريم .

     ولذا فإننا ستناول الاعتدالية في كل ما تقدم بشيء من التفصيل والإفاضة في النقطة التالية .

أولاً : الاعتدالية والوسطية في العقيدة :

     كما اتسمت العقيدة الإسلامية بالوضوح والدقة، فإنها اتسمت كذلك بالاعتدالية ، وتتخذ الاعتدالية في النواحي العقائدية جوانب مختلفة .. فمنها الاعتدالية في أساس العقيدة ، وذلك بتوجه الأنظار إلى إله واحد ، خالق تعبده وتسبحه ، وذلك انطلاقًا من أسس فلسفية كما يقول الله تعالى ﴿لَوْ كَانَ فَيْهِمَا آلِهَةٌ إلاَّ اللهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء 23) ﴿مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَه مِنْ اِلـٰـهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلـٰـهٍ بِّمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُوْنَ﴾ . (المؤمنون 91) .

     كما تتضح الاعتدالية كذلك في شمولية العقيدة الإسلامية ، حيث الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر .

     كما تتضح كذلك في الدعوة إلى الإيمان بالرسل السابقين ، وأن إيمان المرء لايكتمل إلا بالإيمان بهم ، وتصديق ما جاءوا به .

     وهناك جانب آخر مهم في إطلاق لفظ الإيمان والكفر على الناس ، حيث تتضح اعتدالية الإسلام في تحذير أتباعه من تكفير بعضهم بعضًا .. وذلك بتكفير من ارتكب معصية ، وأصر عليها ولم يتب منها ، أو تكفير علماء الدين وغيرهم لأنهم لم يكفروا الحكام ، أو تكفير كل من عارض فكرهم ولم يقبله .

     ولقد حذر النبي الكريم من الاتهام بالكفر ، فشدد التحذير، ففي الحديث الصحيح : ﴿من قال الأخيه : يا كافر، فقد باء أحدهما﴾ فما لم يكن الأخر بيقين ، فسترد التهمة على من قالها ، ويبوء بها، وفي هذا خطر جسيم .

     وقد صح من حديث أسامة بن زيد : أن من قال (لا إله إلا الله) فقد دخل الإسلام ، وعصمت دمه وماله، ومَنْ قالها خوفًا أو تعوذًا من السيف ، فحسابه على الله ولنا الظاهر ، ولهذا أنكر النبي غاية الإنكار على أسامة حين قتل الرجل في المعركة ، بعد أن نطق بالشهادة ، وقال : قتلته بعد أن قال : لا إله إلا الله ، قال : إنما قالها تعوذًا من السيف ، قال: هلا شققت قلبه؟ ما تصنع بلا إله إلا الله ؟ قال أسامة : «فمازال يكررها حتى تمنيت أنى أسلمت يومئذ فقط».

     الحق أن هناك فرقًا بين الإيمان المطلق ، ومطلق الإيمان ، وبين الإسلام الكامل ومجرد الإسلام ، وهناك فرق بين الشرك الأكبر والشرك الأصغر، نفاق العقيدة ونفاق العمل. (يوسف القرضاوي، 1982، 77).

     ويجب أن نعلم أن الكفر نوعان : الكفر الأكبر: وهو الموجب للخلود في النار .. أما الأصغر: فهو موجب لاستحقاق الوعيد دون الخلود . كما في الحديث ﴿اثنتان في أمتي ، هما كفر: الطعن في النسب، والنياحة﴾ وقوله في السنن ﴿من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أُنْزِلَ على محمد﴾ وفي الحديث الآخر ﴿من أتى كاهنًا أو عرافًا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد﴾ وقوله ﴿ولاترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض﴾ .

     وكل هذه الأمور لاتخرج عن الملة – كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما – فهو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .

     أما الكفر الحقيقي – الأكبر – فهو الشرك بالله تعالى ، أو الردة عن الإسلام .

     وبعد أن عرضنا للاعتدالية والوسطية في العقيدة الإسلامية ، فإنه يمكن القول إن هذه الاعتدالية تتسع لأمور أخرى غير العقيدة ، مثل العبادات والمعاملات، وهذا ما تعرض له النقطة التالية .

ثانيًا : الاعتدالية والتوسط في العبادات والمعاملات:

     تتضح الاعتدالية في العبادات أكثر ما يكون في عدم كثرة التكاليف التي جاءت بالقرآن ، حتى صار من اليسر القيام بها دون عنت أو مشقة ، كما نرى في إباحة قصرة الصلاة حال السفر والفطر للصائم إذا كان مريضًا أو على سفر، وإباحة التيمم بدل الوضوء للصلاة لمن لم يجد الماء ، أو كان في استعماله ضرر. وقد فرض الصيام شهرًا واحدًا في العام ، وأبيح الفطر لمن لا يحتمله، وقد فرض الحج مرة واحدة في العمر، ولم يكلف به إلا من استطاع إليه سبيلاً ، والأمر كذلك في الزكاة التي لم تفرض إلا على القادر الذي يفيض ماله عن حاجته ، وفي ناحية المعاملات نجد اليسر شاملاً ، فليست هناك إجراءات رسمية ، أو شكلية يجب اتباعها ليكون العقد صحيحًا كما كان الأمر عند الرومان ، بل تكفى في هذا رغبة المتعاقدين فقط ، ومن ثم فلا نجد في القرآن في جواز العقود إلا شرط الرضا ، ومن باب التيسير في المعاملات أيضًا ابتناء ككثير من الأحكام على العرف الصحيح شرعًا. وفي باب العقوبات فإن التوجيه النبوي في شأن الحدود يحث المسلمين على الترفق والتيسير، في مثل قوله ﴿ادرأوا الحدود بالشبهات ما استطعتم﴾ وفي بعض الروايات ﴿ادرأوا عن المسلمين ما استطعتم، فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله . فإن الأمام يخطئ في العفو ، خير من أن يخطئ في العقوبة﴾.

     وقد حددد الشيخ عبد العزيز جاويش في كتابه «الإسلام دين الفطرة» أحد عشر أصلاً للإسلام ، أولها الاجتهاد ، وثانيها القصد في الأعمال ، وإقامة ما لا يشق على النفوس من التكاليف . وقد كتب في هذا المعنى يقول (فكل ما ليس في وسع الإنسان أن يقوم به فلا تكليف فيه. والمراد بالوسع في الآية الكريمة ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ أن يكون العمل حيث لا يجهد صاحبه ، ولا يوقعه في العناء والتعب . (فهمي هويدي، 1987 ، 48).

     وإذا عدنا إلى تطبيق عملي للاعتدالية في الإسلام، فإننا سنجد ذلك واضحًا في التدرج الذي انتهجه القرآن الكريم مع الصحابة في أمرهم بشيء ما، أو نهيهم عن آخر .. حيث تقول السيدة عائشة رضي الله عنها في هذا المعنى ، واصفة تدرج التشريع ونزول القرآن «إنما أنزل أول ما أنزل القرآن بسور فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام ، نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء : لا تشربوا الخمر ولا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الخمر ولا الزنا أبدًا . (رواه البخاري)

     فالخمر لم تحرم مرة واحدة ، بل تدرج القرآن الكريم في تحريمها ، حيث بين لهم أن ضررها أكبر من نفعها في قوله سبحانه ﴿يَسْأَلُوْنَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيْهِمَا إِثـْمٌ كَبِيْرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ ، وَإِثـْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ (البقرة 219) ثم حرمها عليهم في بعض الأوقات في قوله سبحانه ﴿لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارٰى حَتى تَعْلَمُوْا مَا تَقُوْلُوْنَ﴾ (النساء:43). فكانوا لايشربونها إلا بعد الصلاة ، ثم نزل قوله تعالى ﴿يـٰـأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيِطَانِ فَاجْتَنِبُوْهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ﴾ (المائدة:90). فاستجابوا لذلك ، وامتنعوا عن شربها في جميع الأوقات .

     ولعل هذا التدرج يتفق مع فهم القرآن للنفس البشرية ، وكنهها ، وهو تأكيد على اعتدالية الإسلام في تشريعاته .

     وبعد أن عرضنا للاعتدلية وصورها المختلفة في العبادات والمعاملات في الإسلام ، فإنه يمكن القول إن هذه الاعتدالية تتسع لتشمل النواحي السلوكية ، وهذا ما تعرض له النقطة التالية .

ثالثاً : الاعتدالية في السلوكيات :

     رسمت الشريعة الإسلامية طريقاً قويماً للسلوك الصحيح للمسلم ، الذي يبتعد عن التشدد في سلوكياته وأفكاره ، ويعتدل في شتى أحواله .. حيث وزع الإسلام حقوق الآخرين بقسط وعدل ، كما يوضحها الحديث الذي رواه البخاري والترمذي عن أبي حذيفة قال : قال سلمان لأبي الدرداء (إن لربك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، فأعط كل ذي حق حقه) وذكر ذلك لرسول الله فقال : صدق سلمان .

     وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله : «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً .

     قال الإمام النووي : أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم . ويلاحظ أن هذا الحديث جعل عاقبة التنطع هي الهلاك ، وهو يشمل هلالك الدين والدنيا ، وأي خسارة أشد من الهلاك ، وكفى به زجرًا .

     ولقد شدد القرآن الكريم ، وأنكر، على أصحاب نزعة الميل إلى التشدد في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده ، فقال تعالى في القرآن المكي ﴿يَا بَنِيْ آدَمَ خُذُوْا زِيْنَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، وَكُلُوْا وَاشْرَبُوْا وَلاَ تُسْرِفُوْا ، إِنَّه لاَيُحِبُّ الْمُسْرِفِيْنَ . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِيْنَةَ اللهِ الَّتِيْ أَخْرَجَ لِعِبَادِه وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف 31) .

     وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله ﴿يـٰـأَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تُحَرِّمُوْا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدَوْا إِنَّ اللهَ لاَيُحِبُّ الْمُعْتَدِيْنَ. وَكُلُوْا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاً طَيبًا . وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِيْ أَنْتُمْ بِه مُؤْمِنُوْنَ﴾ (المائدة 87-88) .

     وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة، حقيقة منهج الإسلام في مقاومة الغلو الذي وُجِدَ في بعض الأديان .. فقد رُوِيَ في سبب النزول أن رهطاً من الصحابة قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا، ونسبح في الأرض كالرهبان . ورُوِيَ أن رجالاً أرادوا أن يتبتلوا أو يحصروا أنفسهم، ويلبسوا المسوح (ملابس الرهبان) فنزلت .

     وجاء عن ابن عباس : أن رجلاً أتى النبي ، فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء ، وإني حرمت عليَّ اللحم . فنزلت ﴿يـٰـآ أَيُّهَا الَّذِيْنَ آمَنُوْا لاَ تُحَرِّمُوْا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾ ذكر هذه الروايات ابن كثير في تفسيره . (ابن كثير ج2/1980/87-88) .

     ويمكن القول إن ما جاء به الإسلام من أحكام واضحة مفصلة ، تهدي إلى الخير والعدل ، لهي أهدى طريق للسلوك السوي للمسلم ، دون تعنت أو غلو حيث نهانا الرسول عن الغلو ، ودعا إلى التيسير والتفاؤل وهذا مما تتناوله – بشيء من التفصيل – النقطة التالية .

رابعًا : الاعتدالية في توجيهات الرسول :

        جاءت توجيهات الرسول الكريم في مجملها تدعوا إلى الرفق واللين والتوسط ، وعدم المغالاة فقد رُوِيَ أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله كان يقول ﴿لاتشددوا على أنفسكم ، فيشدد عليكم ، فإن قومًا شددوا على أنفسهم ، فشدد عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات ، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم﴾ (ابن كثير ج4/1980/315) .

     ومن أجل ذلك قاوم النبي كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين ، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام ، ووازن به بين الروحية والمادة، ووفق بفضله بين الدين والدنيا ، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب من الحياة ، التي خلق لها الإنسان .

     وتتضح صور مقاومة الرسول الكريم للتطرف بالحسم والحزم في عدة مواقف نورد بعضًا منها :

     عندما اجتمع ثلاثة من أصحابه يتواصوان على أن يرتقوا بعبادتهم إلى ما يؤود طاقة الإنسان ، فلما أُخبروا عن عبادته كأنهم تقالوها ؛ فقال أحدهم: إني سأصوم الدهر ، ولا أفطر .. وقال الثاني : إني سأقوم ، ولا أنام .. وقال الثالث : أما أنا فلن أتزوج النساء .. عندئذ خرج إليهم رسول الله سألهم : أأنتم الذين قلتم كذا، وكذا؟ قالوا – وجلين – نعم يا رسول الله .. فقال الرسول عليه السلام ﴿أما والله، إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له ، ولكني أصوم وأفطر، وأقوم من الليل وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني﴾.

     إن الصيام والقيام عبادتان لهما في الإسلام مكانة عالية ، ومع ذلك اعتبر الرسول مجرد المغالاة فيهما عملاً مرفوضًا ، وذات يوم ، والرسول مع أصحابه في سفر، وكانوا صيامًا ، خشي الرسول على أصحابه من وقدة الحر، ولفح الهجير، فأفطر، ونادى في أصحابه بأن يفطروا .. وامتثل الصحابة لأمر الرسول إلا نفرًا منهم واصل صيامه ، فلما نقل إلى الرسول نبأهم غضب وقال : أولئك العصاة ، أولئك العصاة ، فلما سمعوا ذلك أفطروا . (خالد محمد خالد ، 1982، 52-53) .

        ويضع الرسول منهجًا قويمًا للاعتدال والقصد فيقول عليه السلام ﴿إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، فإن المنبت لا أرضًا قطع ، ولا ظهرًا أبقى﴾ .

     وتتضح الاعتدالية في سلوكيات الرسول ، وعلاقاته بأصحابه وسؤاله عنهم ، وتوجيهاته المستمرة لهم ، وعدله بينهم ، وهديهم إلى الصراط المستقيم .

     وإذا كنا قد عرضنا للاعتدالية في توجيهات الرسول الكريم ، فإن هناك وجهًا آخر للاعتدالية ، وهو الجانب الأخلاقي فيها .. فكما توجد اعتدالية في التشريعات والسلوكيات فإن هناك اعتدالية ووسطية كذلك في الأخلاقيات ، وهذا ما تعرض له النقطة التالية.

خامسًا : الاعتدالية في الجوانب الأخلاقية :

     إن كل صفة خلقية لها حدها من التوسط ، وهذا الحد قد يزداد عند بعض الناس فتنقلب هذه الصفة الحسنة إلى صفة سيئة ، فالشجاعة – وهي صفة محمودة وخلق كريم في كل الأعراف وعند جميع الشعوب – إن هي إلا وسط بين طرفين ، فإن هي جاوزت منزلتها هذه فبلغت الطرف العلى كانت تهورًا ، أو بلغت الطرف الأدنى كانت جنبًا ، وكلا الأمرين ، الجبن والتهور رذيلة ، والجود كذلك وهو من أجل الأخلاق وأكرمها عند الله ، وعن الناس ، وسط بين الإسراف والبخل . (أحمد حسن الباقوري، 1981، 27) .

     وكذلك من اعتدال قوة العقل يحسن حسن التدبير، وجودة الذهن ، وثقابة الرأى ، ومن أفراطها يصدر المكر والخداع والدهاء . وخلق العفة كذلك يصدر منه السخاء والحياء والصبر ، وميلها إلى التفريط يحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتقتير والتذلل للأغنياء . (حسني محمد بدوي، 1984 ، 26) .

     كما أن خشوع الإيمان قد ينقلب إلى خشوع النفاق إذ أفرِّط فيه ، والتواضع قد ينقلب إلى المهانة، والمهانة قد تنقلب إلى الكبر والعلو ، والاقتصاد قد ينقلب إلى الشح ، والاحتراز قد ينقلب إلى سوء الظن، والهدية قد تنقلب إلى رشوة ، والعفو قد ينقلب إلى الذل، والرجاء قد ينقلب إلى التمنى ، والتحدث بأنعم الله قد ينقلب إلى الفخر بها ، ورقة القلب قد تنقلب إلى الجزع ، والمنافسة قد تنقلب إلى الحسد ، والتوكل قد ينقلب إلى العجز ، والمبادرة قد تنقلب إلى العجلة ، والأخبار بالحال قد ينقلب إلى الشكوى. (ابن القيم ، الروح ، 1975).

     وهكذا فإن كل صفة حسنة لها شق آخر سيئ ، وذلك إذا أفرط المرء في تلك الصفة ، ولعل هذا يؤكد الحاجة إلى الاعتدال في كل شيء ، والتوسط في النواحي الأخلاقية لايقل أهمية عن التوسط في باقي النواحي التعبدية والسلوكية ، وذلك لأن الأخلاقيات ركن أساسي في الدين الإسلامي ، وجزء مهم في بناء الكيان الروحي للأمة الإسلامية .

*  *  *

المراجع :

1-            القرآن الكريم .

2-            كتب الصحاح والسنة .

3-            ابن القيم : الروح، تحقيق محمد أنيس عمارة ، القاهرة ، مكتبة نصر ، 1975 .

4-            ابن كثير : تفسير القرآن العظيم ، حلب ، مكتبة التراث الإسلامي ، 1980 .

5-            أبو الحسن الندوي : فقه الدعوة ملامح وأفاق ، ج1 – كتاب الأمة 18 – قطر، رئاسة المحاكم الشرعية ، 1988.

6-            أحمد حسن الباقورى : الاعتدال .. خصيصة الإسلام، مجلة منبر الإسلام ، القاهرة ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، فبراير ، 1981 .

7-            أحمد كمال أبوالمجد : التطرف غير الجريمة ، مجلة العربي ، الكويت ، وزارة الإعلام ، يناير ، 1982 .

8-            حسني محمد بدوي : الاعتدال ميزان الأعمال ، مجلة منار الإسلام ، أبوظبي ، وزارة الشؤون الإسلامية ، أغسطس ، 1984 .

9-            خالد محمد خالد : أسباب أربعة للتطرف ، مجلة العربي ، الكويت ، وزارة الإعلام ، يناير ، 1982 .

10-        فهمي هويدي : التشدد يحسنه كل أحد ، مجلة العربي ، الكويت ، وزارة الإعلام ، يونيو ، 1982 .

11-        محمد الغزالي : مشكلات في طريق الحياة الإسلامية – كتاب الأمة 1 – قطر ، رئاسة المحاكم الشرعية ، 1982 .

12-        محمد فتحي عثمان : القمع سبب للتطرف وليس علاجاً له، مجلة العربي ، الكويت ، وزارة الإعلام ، يناير، 1982.

13-        يوسف القرضاوي : الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف ، ط 3 – كتاب الأمة 2 – قطر، رئاسة المحاكم الشرعية ، 1982 .

 

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذوالحجة 1426هـ = يناير 2006م ، العـدد : 12 ، السنـة : 29.

 



(*)        جمهورية مصر العربية كفر الشيخ ، ص ب : 71

           الرمز البريدي : 33511